الإصلاح. لا يمرّ يومٌ من دون أن نسمع فيه هذه الكلمة. غالباً ما يردّدها الفاسدون أيضاً. حتى الفاسدين يطالبون بالإصلاح، ما يُفرِّغ هذه الكلمة من مضمونها.
حجر الأساس للإصلاح في المجلس النيابي. الأرضيّة هي تشريع القوانين التي تتيح الإصلاح، وقد عملت لجنة المال والموازنة النيابيّة وفق هذا التوجّه، وهي أضاءت شموعاً كثيرة، بدل الانضمام الى صفوف لاعني الظلام، وما أكثرهم، وقد زادوا أضعافاً بعد 17 تشرين 2019.
إلا أنّ الإصلاح، في بلدٍ مثل لبنان، يبقى حبراً تشريعيّاً على ورق إن لم تبادر الحكومات الى ترجمته الى أفعال، والقضاء الى محاسبة المعرقلين.
سعت لجنة المال الى أن تسير عكس التيّار الذي كان سائداً لسنوات، بل لعقود. أدخلت تعديلات على نصوص، وأرست نهجاً جديداً في الرقابة البرلمانية، وإن لم تنجح في تغيير الذهنيّات السلطوية، حتى وصلنا الى ما وصلنا إليه.
فكان تعديل المادة 5 الشهيرة والرابضة في كل الموازنات من التسعينات، بتحديد سقف الاستدانة وربط الاجازة، التي كانت مفتوحة على مصراعيها، بالعجز المرتقَب لا المحقَّق والفعلي.
كذلك، عُدّلت المادة 7 الشهيرة ايضاً في كل الموازنات، والتي كانت تجيز سحب الهبات والقروض من التسعينات الى خارج حساب خزينة الدولة، أي الى حسابات الخزينة، وإعفاء السلطة والادارة والمؤسسات العامة من الرقابة على كيفيّة إنفاقها، بحيث أعيدت الى حساب الخزينة وأُخضِعت لرقابة مسبقة من ديوان المحاسبة.
وقامت اللجنة بوقف إدراج قوانين البرامج التي يمتدّ تنفيذها وإنفاقها على سنوات، والتي تتعلّق بمشاريع كبيرة ومبالغ ضخمة مرصودة لها في متن الموازنة، ما كان يتعارض مع مبدأ سنويّة الموازنة ودراسة ومناقشة ومراقبة هذه القوانين كلّ على حدة.
تخيّلوا أنّ أحد قوانين برامج الألياف الضوئيّة، وكلفته حينذاك كانت 800 مليار ليرة، اضافة الى ما رُصد له سابقاً من مبالغ ضخمة، أتى في صفحة واحدة في موازنة 2018، فأوقِف وعُدّل، على رغم المعارضة السياسية الشديدة من جهاتٍ مختلفة مارس بعضها ضغوطاً.
ومن الإنجازات التي تُسجَّل للجنة، خفض الاحتياط في الموازنة مما يزيد عن 1500 مليار ليرة سنوياً تُصرف من دون رقابة، بتوافق أركان السلطة التنفيذيّة، الى ما دون 500 مليار ليرة واخضاعها لرقابة مجلس النواب، وفق قانون المحاسبة العمومية.
وألزمت اللجنة الحكومات بالعودة الى المجلس النيابي، إذا تجاوزت الاعتمادات الملحوظة في الموازنة، بخلاف الممارسات السابقة التي كانت تقوم على تمديدٍ غير دستوري وقانوني للقاعدة الإثني عشريّة، وحتى تجاوزها بمليارات الدولارات وعلى مدى سنوات.
هذه التعديلات التي أدخلناها، وإنْ بعدما استنفدت الحكومات المتعاقبة بتجاوزاتها قدرات الدولة وامكاناتها ووصول الدَّين العام الى مستويات غير مسبوقة، هي اصلاحات بنيويّة.
تُضاف، الى ما سبق كلّه، الاصلاحات الماليّة المتعلقة بالحدّ من الإنفاق والهدر بالماليّة العامة بشكلٍ مباشر، من خلال تخفيض اعتمادات الموازنة الجارية كالمساهمات للجمعيّات والهبات والايجارات وغيرها من أبواب الهدر، والتي وصلت الى ما يزيد عن الألف مليار ليرة تخفيضاً في عامي 2017 و2018.
هي محاولة جديّة وحازمة، لكنها تحتاج الى مواكبة واحترام من سائر قطاعات الدولة، وخصوصاً من الحكومة والقضاء. يدٌ واحدة لا تصفّق، في الإصلاح.
ولا بأس في أن نتذكّر أنّ لبنان كان من دون حساباتٍ ماليّة مدقّقة منذ العام 1993. لذا، ألزمنا وزارة المال، من خلال رقابتنا عليها، بإعادة تكوين هذه الحسابات منذ ذلك العام وحتى اليوم وإخضاعها لتدقيق الديوان.
النتيجة: 27 مليار دولار من الأموال العامة مجهولة المصير. والإنجاز الأكبر منع مشاريع التسويات، من الحكومات المتعاقبة، على هذه الحسابات.
وفي التشريع، أنجزت اللجنة قوانين اصلاحيّة وبنيويّة، مثل مكافحة الارهاب وتبييض الأموال، الاثراء غير المشروع، حماية كاشفي الفساد، حقّ الوصول الى المعلومات، الهيئة الوطنيّة لمكافحة الفساد، رفع السريّة المصرفيّة، استعادة الاموال المنهوبة، وغيرها.
قد يقول قارئٌ إنّ بعض ما سبق لم يمنع الإنهيار. نكرّر: يدٌ واحدة لا تصفّق، والعلّة في مكانٍ آخر، وهي تحديداً في السلطتين التنفيذية والقضائية.
أمّا رقابيّاً، فحقّقت اللجنة الكثير، من دون أن تلاقيها السلطة التنفيذيّة أو القضائيّة أو الرقابيّة، وأصدق دليلٍ على ذلك ملف التوظيف حيث تبيّن وجود 32 ألف وظيفة خارج التوصيف الوظيفي القانوني، و5300 في سنة الانتخابات، في العام 2018. تقارير رُفعت من اللجنة، من دون أن يتحرّك المعنيّون، والهدر مستمرّ، وربما التوظيف أيضاً.
في بدايات الحرب اللبنانيّة، وسطوة لغة القتل على لغة الحوار، عُقد اجتماعٌ لـ "زعماء الشارع" في غرب بيروت، وفاجأهم الرئيس تقي الدين الصلح بحضوره، فبادره أحدهم: "نحن هنا بصفتنا مقاتلين، فمن تمثّل أنت؟"، فردّ: "جئتُ أمثّل المقتولين".
لقد سعينا، من خلال عملنا النيابي، وخصوصاً في لجنة المال والموازنة، الى تمثيل "المقتولين" من جرّاء الفساد والهدر. نقول سعينا، وإن لم نحمِهم دوماً من القتل. وسعينا، أيضاً، لأن نكون في "حزب الأوادم" في مواجهة "حزب الزعران"، وهذان يتمثّلان في الأحزاب والطوائف كلّها.
ما يعيشه لبنان اليوم أصدق دليلٍ على غلبة "حزب الزعران". ولكن سنواصل السعي، على أمل التصفيق يوماً ما باليدين، لإنقاذ البلد.